
قصة ريجنالد وينجيت ليست مجرد قصة إداري استعماري، بل هي قصة رجل يصارع حدود السلطة وأعباء التاريخ. لقد شكّل عصره السودان، خيرًا وشرًا. وبينما يواصل السودان بحثه عن الوحدة والعدالة، لا تزال أصداء اختيارات وينجيت—آماله، ومخاوفه، وإخفاقاته—تتردد في الأرض التي حاول يومًا أن يحكمها.
غالبًا ما تخلّد كتب التاريخ مهندسيها بخطوط عريضة—تواريخ، معارك، سياسات. لكن خلف كل إمبراطورية يقف أشخاص طموحون، ناقصون، متطلعون، وأحيانًا تطاردهم العوالم التي سعوا لصياغتها. كان ريجنالد وينجيت، الضابط البريطاني الذي أصبح وجه السودان الاستعماري، واحدًا من هؤلاء الرجال.
جندي شاب في أرض من الشكوك
وُلد وينجيت عام 1861، ولم يولد في كنف السلطة أو المجد، لكنه تعلّم سريعًا قيمة المثابرة. كضابط شاب، وصل إلى مصر عام 1883، إلى أرض تتأرجح بين إمبراطوريات قديمة وطموحات جديدة. كانت مصر تعيد بناء نفسها بعد الحرب، وجيشها تحت قيادة بريطانية، وبالنسبة لأمثال وينجيت، كانت رمال شمال أفريقيا تحمل وعودًا بقدر ما تحمل من المخاطر.
كان يتذكر لاحقًا قلق تلك السنوات الأولى، إذ لم يكن متأكدًا أبدًا ما إذا كانت الترقية التالية ستأتي أم أن مسيرته ستتوقف. ومع ذلك، فإن هذا الشك هو ما صقل عزيمته. بقي هناك—عبر المهام، والعثرات، والحرارة القاسية—لمدة تقارب الأربعين عامًا.
مواجهة عاصفة المهدية
الخطر الذي شكّل مسيرة وينجيت المبكرة كان الدولة المهدية في السودان. لم يكن المهديون مجرد مشكلة عسكرية، بل كانوا رمزًا للمقاومة وذاكرة حية لإمبراطورية مفقودة. في عام 1889، عندما غزت قوات المهدية مصر، كان وينجيت حاضرًا في معركة توشكي، يقاتل ليس فقط من أجل الأرض، بل من أجل ذلك الإحساس الهش بالنظام الذي كان البريطانيون يأملون في فرضه.
لكن أعظم مواهب وينجيت لم تكن في سيفه، بل في عقله. أصبح مديرًا للاستخبارات، وتعلم العربية، وأصغى إلى أصوات السودانيين، وجمع بين آمال ومخاوف أرض تعيش على صفيح ساخن. ترجم الوثائق، وقدم المشورة للجنرالات، وفي لحظات السكون، لا بد أنه تساءل عن المستقبل الذي كان يبنيه لأولئك الذين درس حياتهم عن كثب.
الفتح وثمن النصر
كانت حملة استعادة السودان طويلة وقاسية. كان وينجيت، بصفته رئيس الاستخبارات، يراقب تقدم الجيوش البريطانية والمصرية جنوبًا، وبناء السكك الحديدية وخطوط الإمداد، وخوض المعارك في عطبرة وأم درمان. جاء النصر، لكنه لم يأتِ بلا ثمن. سقطت الدولة المهدية، وقُتل أو أُسر قادتها. قاد وينجيت بنفسه المعركة الأخيرة ضد الخليفة الأخير، منهياً بذلك فصلًا من استقلال السودان.
ومع ذلك، حتى مع ارتفاع الأعلام البريطانية فوق الخرطوم، بقيت ندوب الحرب واضحة. كان البلد محطمًا—قراه خالية بسبب المجاعة، وشعبه مصدوم من سنوات الصراع.
الحاكم العام: أمة بحاجة إلى إعادة بناء
عندما أصبح وينجيت حاكمًا عامًا، ورث أكثر من مجرد لقب—ورث أمة جريحة. واجه مهمة شاقة: إعادة النظام، وإعادة بناء البنية التحتية، وكسب ثقة شعب رأى عالمه ينقلب رأسًا على عقب.
مزج بين القوة والدبلوماسية، فأرسل الجنود لقمع الثورات، لكنه جلس أيضًا مع الزعماء المحليين يستمع إلى شكاواهم. جلب ضباطًا بريطانيين، لكنه بدأ تدريجيًا في تدريب السودانيين لملء صفوف الإدارة. كان النظام القانوني خليطًا—قانون بريطاني هنا، وقانون إسلامي هناك، وعادات محلية في كل مكان.
أحلام التقدم وظلال الانقسام
كان وينجيت يؤمن بالتقدم. شجع زراعة القطن، وبناء السكك الحديدية وخطوط التلغراف—رموز الحداثة التي كان يأمل أن توحد السودان. لكن التقدم جاء بشكل غير متساوٍ. كان التعليم بطيئًا في الوصول إلى عامة الناس، وغالبًا ما اقتصر على المدارس التبشيرية. كان يتحرك بحذر، خشيًا من إثارة مقاومة المجتمعات المحافظة.
احترم تقاليد السودان الإسلامية، وعمل مع الزعماء الدينيين، لكنه ظل يراقب عن كثب أي بوادر للاضطراب. كانت ذكرى الثورة المهدية تطارده، فحكم بيد من حديد لمنع تكرارها.
لكن السودان لم يكن شعبًا واحدًا، ولا دينًا واحدًا، ولا قصة واحدة. كان الشمال في معظمه مسلمًا وعربيًا؛ أما الجنوب فكان إلى حد كبير من أتباع الديانات المحلية والمسيحية. سياسات وينجيت، ربما دون قصد، عمّقت هذه الانقسامات. كان الجنوب يُدار بشكل منفصل، مع استثمار ضئيل وتشجيع للبعثات المسيحية—قرار ستتردد أصداؤه عبر الأجيال.
الحرب والدبلوماسية وثقل الإمبراطورية
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وجد وينجيت نفسه ليس فقط حاكمًا استعماريًا بل دبلوماسيًا إقليميًا. أدار النزاعات الحدودية، وأبقى النفوذ العثماني بعيدًا، ودعم الانتفاضات التي تتماشى مع المصالح البريطانية. في تلك السنوات، كان حاميًا وداهية سياسيًا في آن واحد، وقراراته رسمت مصير الملايين.
الإرث: النظام والتقدم وأعمال لم تكتمل
اليوم، يُنظر إلى إرث وينجيت كنسيج من الإنجازات والتناقضات. جلب السكك الحديدية، وخطوط التلغراف، وشكلًا من النظام إلى بلد كان في حالة فوضى. وضع الأساس للخدمة المدنية والاقتصاد الحديث في السودان. لكنه أيضًا حكم بقبضة من حديد، وقمع المعارضة، وعمّق الانقسامات التي ستطارد السودان طويلاً بعد الاستقلال.
لا يزال المؤرخون يناقشون نواياه وتأثيره. هل كان بانيًا أم هادمًا، واقعيًا أم أبويًا؟ الحقيقة، كما هو الحال دائمًا، تكمن في مكان ما بين الاثنين. كان وينجيت ابن عصره—صاغته الإمبراطورية، كما صاغته أيضًا الشعوب والأماكن التي حاول حكمها.
الوجه الإنساني للإمبراطورية
قصة ريجنالد وينجيت ليست مجرد قصة إداري استعماري، بل هي قصة رجل يصارع حدود السلطة وأعباء التاريخ. لقد شكّل عصره السودان، خيرًا وشرًا. وبينما يواصل السودان بحثه عن الوحدة والعدالة، لا تزال أصداء اختيارات وينجيت—آماله، ومخاوفه، وإخفاقاته—تتردد في الأرض التي حاول يومًا أن يحكمها.

